كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَإِنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا سَرَقَ الْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، أَوْ السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ: فَلَا قَطْعَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ لِسَيِّدِهِ، فَلَمْ يَقْطَعْ أَحَدٌ بِأَخْذِ مَالِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ أَخْذٌ لِمَالِهِ، وَإِنَّمَا إذَا سَرَقَ الْعَبْدُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ: «غُلَامُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ»، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْأَبِ فِي الْبَابَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ: فَهُوَ الْحِرْزُ الَّذِي نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ.
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْحِرْزِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ.
أَمَّا الْأَثَرُ: فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ».
وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ بِالْحِكْمَةِ الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي بَيِّنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكِمَ فِيهَا بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ شَرْعًا، وَبَقِيَتْ الْأَطْمَاعُ مُعَلَّقَةً بِهَا، وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا، فَتَكُفُّهَا الْمُرُوءَةُ وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ وَالْحِرْزُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ، فَإِذَا أَحَرَزهَا مَالِكُهَا فَقَدْ اجْتَمَعَ بِهَا الصَّوْنَانِ، فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتْ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتْ الْعُقُوبَةُ؛ وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ الضَّمَانُ وَالْأَدَبُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ الْحِرْزِ فِي الصَّوْنِ شَيْءٌ، لَمَّا كَانَ غَايَةَ الْإِمْكَانِ رَكَّبَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ غَايَةَ الْعُقُوبَةِ مِنْ عِنْدِهِ رَدْعًا وَصَوْنًا، وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ؛ لِاقْتِضَاءِ لَفْظِهَا، وَلَا تَضْمَنُ حِكْمَتُهَا وُجُوبَهُ، وَلَمْ أَعْلَمْ مَنْ تَرَكَ اعْتِبَارَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَحَصَّلَ لِي مَنْ يُهْمِلُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ يُذْكَرُ، وَرُبَّمَا نُسِبَ إلَى مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضْت عَنْ ذِكْرِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يَهْتِكْ حِرْزًا لَمْ يُلْزِمْهُ أَحَدٌ قِطْعًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: حُكْمُ الشَّرِيكِ: لَمَّا ثَبَتَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي الْقَطْعِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى إخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهِ، أَوْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجَهُ إلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ جَمِيعُهُمْ بِاتِّفَاقٍ مِنْ عُلَمَائِنَا.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُخْرِجهُ وَاحِدٌ وَاشْتَرَكُوا فِي إخْرَاجِهِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا قَطْعَ فِيهِ.
وَالثَّانِي: فِيهِ الْقَطْعُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ نِصَابٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّصَابِ وَمَحَلِّهِ حِينَ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا مِنْ سَرَقَ نِصَابًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ.
وَدَلِيلُنَا: الِاشْتِرَاكُ فِي الْجِنَايَةِ لَا يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ، وَمَا أَقْرَبَ مَا بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ، صِيَانَةً لِلدِّمَاءِ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ مِثْلُهُ، لاسيما وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قُطِعُوا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إذَا اشْتَرَكُوا فِي السَّرِقَةِ فَإِنْ نَقَبَ وَاحِدٌ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ يَسْرِقْ، وَالْآخَرَ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكِ الْحُرْمَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شَارَك فِي النَّقْبِ وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ.
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَعَاوُنٌ وَاتِّفَاقٌ قُطِعَا، وَإِنْ نَقَبَ سَارِقٌ وَجَاءَ آخَرُ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَدَخَلَ النَّقْبَ وَسَرَقَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ شَرْطِ الْقَطْعِ وَهُوَ الْحِرْزُ، وَفَصْلُ التَّعَاوُنِ قَدْ تَقَدَّمَ وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي النَّبَّاشِ: قَالَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ: يُقْطَعُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّرِقَةُ بِحَيْثُ تُتَّقَى الْأَعْيُنُ، وَيُتَحَفَّظُ مِنْ النَّاس، وَعَلَى نَفْي السَّرِقَةِ عَوَّلَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَقُلْنَا: إنَّهُ سَارِقٌ؛ لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَاتَّقَى الْأَعْيُنَ، وَتَعَمَّدْ وَقْتًا لَا نَاظِرَ فِيهِ وَلَا مَارَّ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ تَبَرُّزِ النَّاسِ لِلْعِيدِ وَخُلُوِّ الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمَكَّنَةِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًّا، وَلَا يُنْفَقُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ دَفْنِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَنَ إلَّا مَعَ أَصْحَابِهِ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ ذَلِكَ حِرْزُهُ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} لَيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا وَيُدْفَنَ فِيهَا مَيِّتًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ فَكُلُّ مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ بِلِبَاسِهِ، إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنْ الثَّانِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا سَرَقَ السَّارِقُ وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَيْهِ وَرَدُّ الْعَيْنِ؛ فَإِنْ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَطْعِ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْغُرْمُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ فِي الْحَالَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ مَعَ الْغُرْمِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ} وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ، وَهِيَ نَسْخٌ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ، وَأَمَّا بِنَظَرٍ فَلَا يَجُوزُ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} مُطْلَقًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطَى لِذَوِي الْقُرْبَى إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ؛ فَزَادَ عَلَى النَّصِّ بِغَيْرِ نَصٍّ مِثْلِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَعَوَّلُوا عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَلَا يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ قَوِيٌّ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ».
وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ عُقُوبَةٌ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ، وَعَلَيْهِ عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُخْتَلُّ اللَّفْظِ.
وَصَوَابُهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ وَاجِبٌ فِي الْبَدَنِ، وَالْغُرْمَ عَلَى الْمُوسِرِ وَاجِبٌ فِي الْمَالِ، فَصَارَا حَقَّيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ.
وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقُلْنَا: يَثْبُتُ الْغُرْمُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَطْعَ فِي الْبَدَنِ وَالْغُرْمَ وَهُوَ مَحَلٌّ وَاحِدٌ، فَلَمْ يَجُزْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةَ فِي مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ، وَالْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يَنْقُضُ هَذَا الْأَصْلَ؛ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ مَعَ الْقِيمَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ إلَّا أَنْ يَطَّرِدَ أَصْلُنَا، فَنَقُولُ: إذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ، وَإِنَّ الْجَزَاءَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، سَقَطَتْ الْقِيمَةُ عَنْهُ، فَحِينَئِذٍ تَطَّرِدُ الْمَسْأَلَةُ وَيَصِحُّ الْمَذْهَبُ؛ أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رَوَى النَّسَائِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَغْرَمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إذَا أَقَمْتُمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ».
فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُعْسِرِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ شَاءَ أَغْرَمَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَهُ وَلَمْ يُغْرِمْهُ؛ فَجَعَلَ الْخِيَارَ إلَيْهِ؛ وَالْخِيَارُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَرْءِ بَيْنَ حَقَّيْنِ هُمَا لَهُ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَيَّرَ الْعَبْدُ فِيهِ كَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: إذَا سَرَقَ الْمَالَ مِنْ الَّذِي سَرَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ، وَيَدَ السَّارِقِ كَلَا يَدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا حِرْزٍ.
قُلْنَا: الْحِرْزُ قَائِمٌ، وَالْمِلْكُ قَائِمٌ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْمِلْكُ فِيهِ، فَيَقُولُوا لَنَا: أَبْطِلُوا الْحِرْزَ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا تَكَرَّرَتْ السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ قُطِعَ ثَانِيًا فِيهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ دَلِيلٌ يُحْكَى، وَلاسيما وَقَدْ قَالَ مَعَنَا: إذَا تَكَرَّرَ الزِّنَا يُحَدُّ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا اعْتِرَاضَهُمْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَبْطَلْنَاه.
وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا مَلَكَ السَّارِقُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ: إذَا مَلَكَ السَّارِقُ قَبْلَ أَنْ يُقْطَعَ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ سَقَطَ الْقَطْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}.
فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يُسْقِطْهُ شَيْءٌ وَلَا تَوْبَةُ السَّارِقِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُدُودَهُ، وَعَزَوْهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلًا، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}.
وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْوُجُوبِ، فَوَجَبَ حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ الْمُحَارِبِ قَالَ: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ السَّارِقِ، وَقَالَ فِيهِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} فَلَوْ كَانَ ظُلْمُهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، وَيَا مَعْشَرَ الشَّافِعِيَّةِ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَيْنَ الدَّقَائِقُ الْفِقْهِيَّةُ وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا فِي غَوَامِضِ الْمَسَائِلِ، أَلَمْ تَرَوْا إلَى الْمُحَارِبِ الْمُسْتَبِدِّ بِنَفْسِهِ، الْمُجْتَرِئِ بِسِلَاحِهِ، الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ إلَى الْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، كَيْف أَسْقَطَ جَزَاءَهُ بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا فُعِلَ بِالْكَافِرِ فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ.
فَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي، وَهُمْ فِي قَبْضَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ؟ أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْمُحَارِبِ، وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا الْحَالَةُ وَالْحِكْمَةُ؟
هَذَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ، يَا مَعْشَرَ الْمُحَقِّقِينَ.
وَأَمَّا مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ، فَقَدْ «قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».
خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: حُكْمُ سَارِقِ الْمُصْحَفِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَا يَنْفَعُ إلَّا أَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ وَتَمَلُّكَهُ.
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ: إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ وَرَقًا وَكَتَبَ فِيهِ الْقُرْآنَ لَا يُبْطِلُ مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ مِلْكَهُ، كَمَا لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ لَوْ كَتَبَ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ تَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَطْعِ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْله تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} اعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ فِي الْقُرْآنِ لِذِكْرِهَا، وَلَكِنَّ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ وَنُظَرَاءَهُ ذَكَرْنَا أُمَّهَاتِ النَّظَائِرِ، لِئَلَّا يَطُولَ عَلَيْكُمْ الِاسْتِيفَاءُ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّخْصِيصِ لِهَذَا الْعُمُومِ، لِتَعْلَمُوا كَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَكَذَا عَقَدْنَا فِي كُلِّ آيَةٍ وَسَرَدْنَا، فَافْهَمُوهُ مِنْ آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ؛ إذْ لَوْ ذَهَبْنَا إلَى ذِكْرِ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَصَعُبَ الْمَرَامُ.